Powered By Blogger

الأحد، 20 يوليو 2014

إليك أحمد





ألا يَا شَبيهَ الشّيخِ فِيمَ رَحيلُكُمْ؟***ِلتَلْحقَ شيخَ العلمِ إذْ طَارَ طَائِرُهْ
وأبقى لنا علمًا حميدًا ممجدًا***نُواسِي بهِ قلبًا حزينًا يسامِرُهْ
رحلتَ ولم تتركْ لقلبي مواسيًا***يَتيمًا غدى مِنْ فَقدِكُمْ مَنْ يُناصِرُهْ
رحلتَ ولمْ تَترُكْ لأجفانِ شادِنٍ***مُعينًا لهُ يبكي وضلَّتْ سَرَائِرُهْ
رحلتَ ولمْ تَترُكْ لِثَكْلَاكَ مُؤنِسًا***ولا لأخيكَ الشّهْمِ; قامتْ غَدائِرُهْ
أأحمدُ قدْ فارقتنا ولَهولُكُمْ***كَهولٍ لهُ الإنسانُ تَبدو ضَمائرُهْ
نَعتْكَ سُرُورٌ والبِلادُ جَمِيعُهَا***نَعَاكَ بَهِيْمُ الليْلِ إذْ غَابَ سَاهرُهْ نَعَاكَ مُحِبُّ قَلْبُهُ مَاتَ عَاجِزًا***يُطَوَّق قول الشّعرِ ضَاعَتْ خَواطرُهْ
شُويعرُ شَعْرُورٌ قَصيدًا أضاعَهُ***مُصَابُكُمُ صَعْبٌ وَزَلَّتْ شَوَاعِرُهْ
إلى جَنَّةِ الخُلْدِ العَظِيْمَةِ أَحْمَدُ ***بِقُربِ أبِيْكَ الحَبْرِ وَالعِلْمُ شَاهِرُهْ



الاثنين، 10 فبراير 2014

قراءة في كتاب – معالم السيرة النبوية (4)


للدكتور محمد الزيني
6ــ تعرض المؤلف لمسألة لقاء الرسول ببحيرا الراهب النسطوري، وقد استرحت كثيرا عندما رفض القصة وأراحنا من هذا العبث الذي ذكره بعض المؤرخين في تفاصيل هذه الرواية، ونعتقد أنهم قصدوا من ذلك البرهنة على أن أهل الكتاب كان عندهم علم بظهور رسول من العرب، ونحن نؤمن بذلك لأن عندنا آيات القرآن التي ذكرت ذلك بصورة واضحة، ومن ثم لسنا في حاجة إلى نبوءة راهب نسطوري أو غير نسطوري، وقد استغلها المستشرقون ودبجوا منها حكايات، ونسجوا منها روايات أقلها أن بحيرا هو الذي علم الرسول ووجهه وألف له القرآن، وقد ناقشت هذه القضية بتوسع في كتابي: تجديد الخطاب الديني، والمستشرقون وعلم الكلام، واستشهدت بوجهة نظر الشيخ محمد الغزالي الذي رفض القصة رفضا قاطعا. هذه قضية.
والقضية الأخرى أن المؤلف رفض حادثة شق الصدر كما جاءت ساذجة في كتب المؤرخين والطست الذي من ذهب والخيط الأسود، وله سلف صالح سبقوه في هذه الرؤية فقد أنكر ذلك حسين هيكل والشيخ الغزالي وغيرهم من المفكرين المعاصرين لأن الله يعد أنبياءه إعدادا روحيا ونفسيا وعضويا ويمنحهم مواهب متعددة، ويربيهم على عينه، ويهبهم من عطائه ما يجعل منهم قدوة للبشرية، وحاز رسولنا كل صفات الكمال الأخلاقي، وسمات الإنسان الكامل بسبب العطاء الرباني، مما يجعله بنجوة قصية عن مزالق الطبع الإنساني ومفاتن الحياة الأرضية، على حد تعبير الغزالي (فقه السيرة ص 50).
7ــ حينما تعرض المؤلف لزواج الرسول من السيدة خديجة وهي في أعلى ذرى المجتمع القرشي نسبا وحسبا ونبلا وجمالا ومالا وعقلا وحكمة وحنكة، لم يشر إلى أنها بلغت الأربعين وأن عمر الرسول خمسة وعشرين عاما كما درج عليه رواة السيرة ؛ولا ندري أيوافق على هذه الرواية، أم عنده رأي آخر؟
الحقيقة أن في نفْسي شكا كبيرا في رواية المؤرخين لأنهم أرادوا بطريقة شعورية أو لا شعورية أن ينفوا عن الرسول صفة الشهوانية وميله الجنسي للنساء كما يدعي الآن المستشرقون ويعزفون عليها لحنا نشازا وأصواتا منكرة.
ولكن هناك رواية أخرى ذكرها عبدالله بن عباس تبين أن عمر خديجة ثمانية وعشرون عاما، وهي أدعى للقبول، ونستطيع أن نبرهن على صدقها بالآتي:
أ- من المعلوم أن الفتاة تبلغ مبكرا في الجزيرة العربية وتتزوج في وقت مبكر، وهذا يدلل على أن خديجة حينما تزوجت الزواجين السابقين كانت في سن العاشرة أو أكثر ومات زوجها الأول ولم تدم عشرة الثاني.
ب- امرأة في وضعية خديجة جمالا ومالا لا يمكن أن تبقى طوال هذه المدة الطويلة دون زواج وهي مرغوبة من صناديد قريش وكبرائها.
ج- أنجبت السيدة خديجة سبعة أولاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المستبعد أن يكون هذا الإنجاب المتواصل بعد سن الأربعين، لا سيما وانقطاع الدورة الشهرية عند كثير من النساء تبدأ في هذه السن. علاوة على أن علامات الكبر والشيب تظهر في النساء أسرع من الرجال بسبب التكوين الجسمي أي الحمل والولادة.
د- نظرا لمكانة الرسول ونسبه وحسبه وأصله، من العسير أن يوافق على الزواج من امرأة تكبره بخمسة عشر عاما، فقدت زهرة شبابها ونضارتها وجمالها وهو في شرخ الشباب وسن الفتوة والعطاء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف يوافق أعمامه على هذا الزواج، ثم إن مجتمعاتنا العربية حتى الآن تستهجن الفوارق الكبيرة في السن لاسيما إذا كانت المرأة هي الأكبر سنا.
هـ- ناقش العقاد هذه القضية بأسلوبه الفذ ونظراته العميقة وتحليله العبقري، وانتصر لرواية ابن عباس، ونبذ الرواية الأخرى. (فاطمة الزهراء ص 12)
8- في حديثه عن وفاة أبي طالب والسيدة خديجة والذي سمي بعام الحزن أشار المؤلف إلى فقدان الرسول صلى الله عليه وسلم السند الذي كان يحميه، والذي كان يقف حائلا بينه وبين عدوان القرشيين، إلا أنه لم يعلق على موت أبي طالب؛ أمات مؤمنا كما زعم الشيعة أم كافرا كما هي رواية أهل السنة وأنه في النار من أخمص قدميه إلى قمة رأسه؟
الحقيقة أن الناظر في سيرة أبي طالب يدرك أنه كان أقرب للإيمان منه للكفر، ونحن نرجح أن يكون مات مسلما للأسباب الآتية.
أ- رجاحة عقله وسعة أفقه و لين قلبه وحصافة رأيه وعطفه على الرسول «صلى الله عليه وسلم» وحدبه عليه طوال حياته حتى أدركه الموت.
ب- الحمية عند العرب والنخوة والانتصار لأبناء القبيلة، فضلا عن مكانة الرسول عنده وهو أدرى بأخلاقه وسلوكياته، فلاشك أنه كان يعلم علما يقينا أنه رسول، فمن المستبعد أن يظل على عدائه طوال هذه السنوات.
ج- المحيط الأسري الذي يكتنفه، فالإمام علي كان من الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام وكذلك أخوه جعفر الطيار وعقيل، وكفالته للرسول وحبه الشديد له حيث كان في مقام الأب، هذا الجو المشحون بالإيمان والعاطفة الإسلامية والروح المتدينة لاشك أنها تفعل فعل السحر في تصورات الإنسان، وتهز منظومته الفكرية لاسيما بعد مرور عشر سنوات من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإسلام أخيه حمزة وكذلك شيوخ قريش مثل أبي بكر وعثمان وغيرهم؛ هذه العوامل تجعله أقرب للإيمان من الكفر، وشتان بين شخصيته وشخصية أخيه أبي لهب الذي أعلن حربا شعواء على الرسول من البداية، ولم تكن عنده وشائج متعددة تربطه به كما هو موجود عند أبي طالب.
د_ ربما تكون رواية أهل السنة وضعت من قبل المؤرخين الأمويين نكاية في الإمام علي والحط من شأن أسرته واتهامه في والده، صفوة القول تشويه سيرة أبيه والتنقص منه ومن ثم إضعاف موقفه في مواجهة معاوية.
هـ- تروي كتب الشيعة مئات من الروايات المستفيضة بسند قوي وقصص موثقة تؤكد إسلام أبي طالب.
على كل حال هذه وجهة نظر قابلة للأخذ والرد، وتدعونا للتأمل والتفكير والمزيد من البحث والتقصي، للعثور على الحقيقة الكاملة. والله أعلم.
9- وهو يتكلم عن دور الرسول صلى الله عليه وسلم في توحيد النسيج الاجتماعي في المدينة والوحدة العضوية التي حققها بين الأوس والخزرج، ثم المؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار، يتوقف المؤلف للتأمل في واقعة عجيبة تلفت انتباهه، فيشير إلى رواية المؤرخين التي تتحدث عن تنازل الأنصار عن زوجاتهم للمهاجرين، حيث يقول للمهاجر :اختر زوجة من زوجاتي .
ويعلق على ذلك بأن هذا أمر مستنكر لا يرضاه ضمير العربي فضلا عن المسلم، إذ إن العرب تفخر ببذل المال وتعده من مكارم الأخلاق، والصفات المحبوبة، لكن من غير المنطقي أن يبذل له عرضه فهذا منقصة. (141)
ولاشك أن المؤلف بنظراته العميقة وتدقيقه الفاحص في الروايات، وحسه الديني القوي، وشكه المستمر في روايات المؤرخين وصحبته الطويلة معهم، ومعرفته بهم أنهم قوم مغرمون بإيراد العجائب والغرائب، والإيغال في كل ما هو خارج عن المألوف لجذب انتباه القارئ، هذا يؤهله أن يغربل هذه الأساطير ويقدم لنا المفاهيم الصحيحة عن الدين.
ويفسر الخصاصة الواردة في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر (9) بأنها تعني الحاجة إلى المال وليس العرض. 10- بارك الله لنا في المؤلف، والمؤرخ المدقق، وننتظر منه العطاء المتواصل وكل ما هو جديد، بهذا الطرح المبتكر والأسلوب الطريف، فقد كان كتابه بحق «رؤية تحليلية ونظرة تصحيحية» وإعادة قراءة للسيرة بنظرة عصرية.
والله الموفق؛ نعم المولى ونعم النصير.

الخميس، 6 فبراير 2014

البعد الاقتصادي في الإسلام

جريدة عمان
البعد الاقتصادي في الإسلام والقواعد التي وضعها لتنظيم حركة المجتمع في هذا الاقتصاد يقول الدكتور محمد الزيني: لما كان الإسلام خاتم الديانات، ويعد آخر توجيه وإرشاد من السماء إلى الأرض، لذلك اشتمل على توجيهات شاملة وقواعد كلية لتنظيم حركة المجتمع وتطوره في كافة المجالات العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وركز على البعد الحضاري، لبناء مجتمع إسلامي قوي ناهض، ويرى الفقهاء أن جانب المعاملات في الدين الإسلامي أشمل من جانب العبادات وأعم، ومن هذه الجوانب الجانب الاقتصادي، فلقد أعطى لهذا الجانب مساحة واسعة ونهض علماء الإسلام بتقعيد هذه القواعد وتأصيل مسائله حتى تواكب التطور الحضاري للمجتمعات وتصبح قادرة على التكيف معها أينما كان وحيثما قام، ومنها أولا: ظاهرة ترشيد الإنفاق فقد أولى هذه القضية إيلاء عظيما فقال المولى عز وجل: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا). وقال(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وهنا يحدد طبيعة الحركة الاقتصادية سواء على مستوى الفرد أو الأسرة التي هي نواة المجتمع، وكما يقول العلماء إذا صلح الجزء صلح الكل، فخطابه موجه للفرد الذي يقوم بالأمر وإلى الأسرة كجماعة تتفاعل داخل المجتمع وتمثل العمود الفقري له، فدعوته تحثنا على التوسط في الأمور، ما بين أمرين كلاهما مذموم وهو الإسراف الشديد وهذا تدمير لدخل الأسرة وينعكس أثره على إهدار طاقات الدولة وتخريب ميزانيتها، والبخل الذي يفضي إلى تعميق الكراهية بين طبقات المجتمع وزلزلته في أي حين، فيدعو أفراده إلى تنظيم حياتهم تنظيما دقيقا والموازنة بين الدخل الفردي والأسري، ومتطلباته وأبعاد المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وهنا تنتظم الحياة وتسير في معراجها الصاعد إلى التقدم والرقي وكما تتقدم الأسرة من خلال المحافظة على ميزانيتها يتقدم المجتمع، بل وادخار جزء منها تحسبا للأمور الطارئة، كما رأينا في صنيع يوسف حينما نظم ميزانية مصر وخطط لمفاجآت المستقبل، كذلك الفرد والأسرة والمجتمع كافة مطالبون بالتخطيط الدقيق والأخذ بالأسلوب العلمي في إدارة دفة شؤون حياتهم هذا من جهة.
ومن جهة أخرى حينما حثنا الإسلام على الإنفاق بين لنا حدود هذا الإنفاق وحذرنا من التبذير فقال المولى (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقصص الصحابة في الإنفاق مشهورة وتجهيز الجيوش والجهاد في سبيل الله بالمال، فعلى الإنسان أن يسلك طريق الاعتدال أي طريق الكرم الذي هو وسط بين التبذير والإسراف والشح والبخل.
وثانيا نظم الإسلام العلاقة بين الدائن والمدين تنظيما دقيقا ومريحا للدائن والمدين، ويقول العلماء أن أطول آية في القرآن جاءت تنظم العلاقات المالية والتجارية، ورأى أن التجارة أمر مشروع وأن عشرة أمثال الرزق في التجارة، على أن يكون الربح وسطا بين أمرين كلاهما مذموم، التهاون أو الاستغلال، أي لا يكون الربح مغاليا فيه ولا يكون على حساب المستهلك، وكما تقول القاعدة الفقهية: (لا ضرر ولا ضرار).
فمن حق التاجر أن يكسب لأن هذا مورد من موارد دخله، لكن في الوقت نفسه مطالب ألا يغالي في رفع سعر سلعته حتى لا يرهق المستهلك ويتسبب في أزمات اقتصادية، وهزات في السوق ولو عدنا لهذه القاعدة يستشعر الإنسان بينه وبين نفسه الصواب من الخطأ والاستغلال من الربح الحلال، فالتوسط في الأمور هو الحل الوسط حتى تسير دفة الأسرة والمجتمع وتسود العلاقات الطيبة بين المستهلك والتاجر، وتتكافأ الفرص بين الجميع، وتتحقق العدالة الاجتماعية في المجتمع ويتقدم على طريق المستقبل.

الأحد، 2 فبراير 2014

قراءة في كتاب – معالم السيرة النبوية (3)

قراءة في كتاب – معالم السيرة النبوية (3)

جريدة عمان
د. محمد الزيني -
يواصل الدكتور محمد عبد الرحيم الزيني أستاذ الفلسفة الإسلامية قراءته لكتاب “معالم السيرة النبوية” الحلقة الثالثة تأليف سعادة الشيخ: أحمد بن سعود السيابي الذي صدر منذ فترة قليلة. قائلا: في بحث مستقل، ألقاه المؤلف في مؤتمر للسيرة في إسلام آباد عام (1406 هـ/ 1985)، بعنوان “الرسول الرحمة المهداة”، وهي العاطفة السائدة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه الله بهذه الصفة الخلقية العظيمة؛ يتناول المؤلف مظاهر الرحمة في حياة الرسول، ويستعرض هذه الجوانب التي تجلت ظاهرة في رحمته بعشيرته الأقربين ومنها حزنه على وفاة حمزة والعباس وابنته زينب وغيرها من المواقف، وأيضا رحمته، بأصحابه مثل أبي بكر وآل ياسر، ورفقه بالأطفال والنماذج في ذلك عديدة ولعل أشهرها بكاؤه على ابنه إبراهيم، أما تعامله مع الضعفاء والعبيد والحيوان فهو نموذج للرأفة والشفقة، وكان سلوكه يعد منبعا لكافة المواثيق التي صدرت تحافظ على حقوق الإنسان. علاوة على كل ذلك كان سلوكه اليومي وأقواله وأوامره ونواهيه وتعامله مع أعدائه والأسرى سجلا لقواعد الأخلاق والسلوك المثالي والارتقاء بالإنسانية إلى المكانة السامقة. (238 ــ 262)
وثانيا: الانطباعات: نستطيع أن نقرر بصدق أهم الانطباعات التي ترسبت في العقل وأراحت الفؤاد وسرت في الوجدان : ونلخصها في العناصر الآتية:
1 ـ ظهور شخصية الباحث في صفحات الكتاب ظهورا واضحا لا لبس فيه، وطغيانها بشكل جلي في تحليل الحوادث وشرح الوقائع؛ فلا يمر بشخصية قيادية أو حادثة تاريخية أو موقعة من المواقع، إلا يقف أمامها بالدراسة المعمقة والتحليل العلمي والنقد المنهجي، والتعمق في أبعادها، والتفرد بالرأي الطريف الذي يتفق مع السياق ولا يصادم استدلال العقل والاستنباط السليم.
2 ـ تطبيق المنهج الشكي الذي يبدأ فيه الإنسان شاكا وينتهي منه إلى اليقين، تطبيقا صارما كما طرحه الغزالي (505 هـ) في “المنقذ من الضلال “ورينيه ديكارت (1650) في المقال في المنهج والتأملات، والتدقيق في الحوادث وتمحيصها ودورانها في عقله كي تتبلور ويظهر غثها من سمينها وصدقها من كذبها، وعدم قبولها إلا بعد عرض الحجة المقنعة والدليل البرهاني ووضعها تحت مجهر الفحص والتمحيص، ثم يختار الرأي الذي يروق له؛ سواء اتفق مع وجهة نظر المؤرخين القدامى والمحدثين أم لم يتفق، المهم أنه قال كلمته ومضى، وعمل بحكمة سقراط (399 ق.م) ؛قل كلمتك وامض.
3 ـ يسري الحس الديني بين سطور الكتاب من أول صفحة إلى آخرها، ويتغلغل في ثنايا الموضوعات تغلغلا مبهرا، وهذا الانطباع يخرج به الإنسان حينما يقرأ الكتب التي تتناول سيرة الرسول بعامة ،وكتب الإباضية بخاصة، وفي صفحات الكتاب يشعر الإنسان بهذه العاطفة الدينية المتقدة في حبه للرسول وتعظيمه، والاحتفاء بسيرته أيما احتفاء، والاهتمام بكافة ما يتعلق بحركاته وسكناته ؛ مولده وبعثته وهجرته وأعماله وأقواله وسلوكياته، والدفاع عنه دفاعا حاراً، وتفنيد الاتهامات التي طرحها المستشرقون وغير المستشرقين ،الذين أرادوا أن يقللوا من مكانته ويجردوه من ميراث النبوة، ويدعون أن الإسلام معني بالجنس العربي وليس رسالة عالمية لكافة البشر، وكذلك بعض المعاصرين الذين ينفون عنه العصمة قبل البعثة .أو يشككون في بعض تقريراته أو مواقفه، أو يخلطون في سيرته الحقيقية بالخيال والواقعية بالأساطير.
4 ـ التعمق في دراسة تأريخ العرب قبل الإسلام بعامة، والتأريخ الإسلامي بخاصة، والاهتمام بدراسة أصولهم وأنسابهم وقبائلهم وعاداتهم ومظاهر معيشتهم، ورحلاتهم من مكان إلى آخر وأسماء الأماكن وأسباب تسميتها، وفي الوقت نفسه الدفاع عن عاداتهم وتقاليدهم المرتبطة بالبيئة والمحيط الاجتماعي والمزاج العربي البدوي، وإظهار صفاتهم الإيجابية التي كانوا يتسمون بها مثل؛ الشجاعة والنخوة والكرم وحفظ حقوق الجار وسلامة الفطرة وصفاء الباطن فهم على السجية، ولا يتوانى في الرد على الشعوبيين الذين حرصوا أن ينتقموا من المسلمين بسبب زوال دولتهم ويستصغروا شأنهم ويجردوهم من الخلال الكريمة، فنسبوا القصص الكاذبة ،والأساطير الملفقة، والحكايات الغريبة حول سلوكياتهم وعاداتهم.
لقد تكلم المؤلف؛ وعمل بنصيحة سقراط حينما قال للرجل الذي انضم إلى حلقته وظل صامتا، فقال له: تكلم كي نراك. وقد رأينا شخصية متزنة، لها نزعة عقلية واضحة، ومنهج شكي لا تخطئه العين، وحضور جارف، وأسلوب عربي فصيح ؛ بلاغة في القول، وإيجاز في الطرح ، ووضوح في الفكرة ، والبعد عن الألفاظ الغريبة.
ثالثا: حوارات ومناقشات.
1 ــ قرر المؤلف بعد أن أورد سيرة إبراهيم كما وردت في التوراة وكتب المحدثين والمعاصرين، وفيها أنه كذب ثلاث كذبات منها؛ قوله لفرعون أن سارة أخته، وعقب عليها بقوله :”لا نعلم مقدار المصداقية في القصة نظرا لما شاب التوراة من شوائب التحريف” (ص 17).
ونحن نؤيده فيما ذهب إليه في التشكيك في رواية التوراة، مع أنه لم يتعرض لمقولة كذب إبراهيم. على أننا نرفض رفضا كاملا اتهام إبراهيم بالكذب ونسبة ذلك إليه، ونعتقد أن الرواية مضطربة ومدسوسة عليه، ونستطيع أن نفندها، إذ إن القول أنها أخته، تعطي للملك الحق في طلبها زوجة له ما دامت قد وقعت في قلبه، وهذه المصاهرة كانت ترفع من شأن إبراهيم وهو غريب عن وطنه، ثم من يكره أن تتزوج أخته رئيس أكبر دولة آنذاك، ومن ثم فصواب الرواية أن إبراهيم لم يكذب وأبلغ فرعون أنها زوجته، وكان على يقين أن الله حاميه ومنقذه من بطش الملك لا محالة، يقول الشيخ محمد الغزالي: “ما روي من أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات في هذه القصة وغيرها؛ عجز في الرأي وحمق في الفهم، وقد بدأ أهل الكتاب بهذه الأوهام، ثم تسللت إلى مَروياتنا، وهي مستبعدة عند المحققين. (نحو تفسير موضوعي، ص 348).
2 ـ استبعد المؤلف رحلة إبراهيم إلى مصر، وشكك كون هاجر جارية قبطية مصرية، ويرى أن الرواية “تفوح منها رائحة العنصرية، ولا ريب أن يقصد منها استنقاص العرب”. (ص 28).
ونتفق مع المؤلف في إنكاره كون هاجر “جارية”، وقد تعرضنا لهذه القضية في كتابي (المستشرقون وعلم الكلام ص 38) فرواية اليهود قصد منها استصغار شأن العرب، وأنهم “أولاد الجارية” “وعبيد سارة” كما تقول كتبهم، في حين أن اليهود أبناء الحرة!
ونؤمن إيمانا صادقا أنها حرة، لأن الله خلقنا جميعا أحرارا كرماء، ونحن البشر الذين أوجدنا العبودية والذل والاستعباد. لكنني لا أتفق مع المؤلف في إنكار رحلة إبراهيم إلى مصر ورفض الرواية كلية، دون أن يعتمد على مصدر معلوم أو مخطوط محفوظ أو آثار تاريخية، وإنما اجتهد فله أجر الاجتهاد، وعلينا إذا أردنا أن ننفي حادثة تاريخية وندحضها فعلينا أن نقدم الدليل؛ ولا يمكن أن تكون رحلة إبراهيم إلى مصر حادثة عابرة حتى يختلقها المؤرخون أو واقعة ثانوية حتى يهملوها، إنها حدث تأريخي وواقعة مؤثرة في مجرى التأريخ، وقد تواترت الروايات على تأكيد مجيئه إلى مصر، وقد أكد ذلك عبد الوهاب النجار (ت 1941) في “قصص الأنبياء ص 84 “، ود. حسين هيكل في حياة محمد (102)، واستفاض العقاد في كتابه “إبراهيم أبو الأنبياء” شرح المصادر اليهودية والمسيحية والصابئة ومراجع تاريخية لمؤرخين ثقات كلهم برهنوا على مجيئه إلى مصر، وكذلك أبو زهرة في (الديانات القديمة ص 9) هذا أولا، وثانيا يؤكد المؤرخون أن آثار الوحدانية والدعوة إلى عبادة الإله الواحد في مصر نابعة من مصادر متعددة منها رحلة إبراهيم إلى مصر، ومن بعده قدوم يوسف وأبويه وأخوته، وقصة موسى معلومة من القرآن، وهروب مريم من بطش حكام فلسطين ومعها ابنها عيسى حقيقة تاريخية مؤكدة. ورابعا، سيجرد المصريون من ميزة يفتخرون بها وهي: أنهم أخوال العرب، وهذا سيغضبهم ويؤلبهم عليه.
3 ــ في تعليله تقديم القرآن المكي ذكر إسحاق على إسماعيل، وتقديم الآيات المدنية اسم إسماعيل على إسحاق (ص32) يدل على عمق في الفهم وسعة في الأفق ولماحية نادرة وهو اجتهاد موفق، لأن قريش كان عندها نزعة استعلائية فوقية تجاه باقي القبائل، وحينما هاجر المسلمون إلى المدينة، أدركوا استعلاء عنصريا عند اليهود وشعورا بتضخم الذات وترديد مقولة: أنهم شعب الله المختار، فأراد الله أن يبين أن الجميع عباد الله وكل البشر من آدم، ونحن سواء أمام الله وميزان الاصطفاء هو العمل المنتج وخدمة البشرية وخلوص النية لله.
4 ــ نؤيد المؤلف فيما ذهب إليه من أن مسألة وأد البنات لم تكن متفشية بين القبائل العربية وربما وجدت في قبيلة أو أخرى (ص70 ـ 72)، كما نرى في إيمان بعض القبائل بالبعث، ولذلك كانوا يربطون الناقة بجوار قبر الميت حتى يبعث راكبا وليس مترجلا.
كذلك نعضد وجهة نظره في نفيه وأد عمر إحدى بناته ونثني على قدرته على غربلة الروايات الواهية، وإعمال العقل فيها، وعدم قبول القضايا كأنها مسلمات لا تحتاج إلى دليل أو برهان، فأولا تزوج عمر تسع زوجات أنجب منهن ثمانية ذكور وأربع بنات ولم يشر د. حسين هيكل ولا الشيخ الغزالي، الى مسألة قيامه بوأد أحد من بناته (د.هيكل: الفاروق عمر 34) ثانيا: ربما وضع القصة أعداء العرب من الشعوبيين أو الشيعة الغلاة الذين يكرهونه، أو الذين يحسدون مكانته في الإسلام، وقبلها المؤرخون حتى يظهروا كيف أن مبادئ الإسلام غيرت من كيميائية هذا الرجل، وقلبت نفسيته من الغلظة والشدة التي ورثها عن أبيه الخطاب، إلى الحب والرحمة والعطف والحدب على ضعفاء المسلمين والعناية بهم.
5 ــ ذكر المؤلف الأسباب الحقيقية لحملة ابرهة الأشرم على مكة، وأهمها ضرب مكانة الكعبة الدينية، في نفوس العرب، وما تجلبه على قريش من سيولة مالية ونشاط اقتصادي، علاوة على نيته نشر المسيحية بين العرب، وهذا تحليل مقبول من ناحية الواقع التأريخي وتسلسل الحوادث، وفي الوقت نفسه رفض رواية المؤرخين التي تقول أن سبب غزو إبرهة للكعبة يرجع إلى أن أحد العرب قد دخل الكنيسة التي بناها وأفسد فيها، فهذه حجة واهية وسبب ضعيف، ولا يبرر قيام جيش كبير بغزو دولة مجاورة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وقف موقفا وسطا بين رأي الإمام محمد عبده الذي ذهب إلى أن مرض الجدري أصاب جيش إبرهة وتفشى فيه عن طريق الطير الأبابيل، وقد أيد حسين هيكل وجهة نظر الإمام، ومن أكد أننا أمام معجزة خارقة للعادة، فالطير الأبابيل ألقت عليهم حجارة فتناثرت أشلاؤهم، وذهب إلى ذلك سيد قطب، مع أنه وجد عذرا لمحمد عبده في هذا التعليل العقلي بسبب التخلف الفكري وجمود أحوال العصر.
فجمع المؤلف بين الرأيين فلم يستبعد تفشي مرض الجدري والحصبة في جيش ابرهة لكن هذه الفيروسات كانت عن طريق الحجارة التي ألقتها الطير الأبابيل.
وهذا التوجه يرضي طبيعة الإنسان ونوازعه المختلفة ومشاربه الثقافية المتعددة، من يأخذ بالنزعة العقلية ولا يقبل إلا الدليل والحجة والتحليل والتعليل ويقول في نفسه؛ نتعقل ثم نؤمن، ومن يريد أن يؤمن ويأخذ قضايا الدين مسلمات واضحة، دون تعليل أو تحليل، ويقول في نفسه نؤمن ثم نتعقل.

الجمعة، 17 يناير 2014

معالم السيرة النبوية 2

يواصل الدكتور محمد عبد الرحيم الزيني  أستاذ الفلسفة الإسلامية قراءته لكتاب “معالم السيرة النبوية” تأليف سعادة الشيخ: أحمد بن سعود السيابي  الذي صدر منذ فترة قليلة.  قائلا: ان المؤلف استهل حديثه عن مولد الرسول  صلى الله عليه وسلم  بالحديث عن أهمية الاحتفال وضرورته مع الإشارة الى موقف بعض العلماء بعدم إجازة الاحتفال بمولده، نظرا لما كان يشوب هذه الاحتفالات من طقوس مرفوضة وممارسات دخيلة على الإسلام مثل التي ابتدعها الفاطميون في مصر ، وفي آخر دولة اليعاربة طرحت القضية للنقاش ،وقد وضع شاعر عمان أبو مسلم البهلاني كتاب النشأة المحمدية للتعويل عليه في الاحتفال بذكرى الحبيب المصطفى .
ـ تحدث المؤلف عن تأريخ مولد الرسول، وما صاحب ذلك من تهيئة الأذهان بانبلاج فجر جديد للبشرية والإرهاصات التي مهدت التربة لظهور نبت جديد وقد لخصها في عدة نقاط أهمها:
أ ــ مجيء إبراهيم  عليه السلام إلى مكة ومعه هاجر ،ثم بناؤه الكعبة مع ابنه إسماعيل  عليه السلام، ودعوته الكريمة إلى أن يبسط الله الرزق والثمرات لهذه البلاد الآمنة ،وتقديس العرب لهذا البيت العتيق  .
ب ــ  وحدة اللغة ،لاغرو أن وحدة اللغة من العوامل المجمعة في المجتمع ،وقد ساعدت اللغة العربية في  وحدة العرب وتماسكهم وسهولة التفاهم بينهم في كافة أنحاء الجزيرة العربية ،فضلا عن أشعارهم ومعلقاتهم التي قوت أواصر المودة وحسن الجوار ووحدة الفكر  . ج ـ هزيمة حملة أبرهة الحبشي على مكة المكرمة واندحار جيشه بمعجزة  إلهية ،تمثلت في الطير الأبابيل ،التي ألقت عليهم الحجارة ففرقت جيشهم وشتت شملهم ،ومزقت أجسامهم .
د ــ عصمة الرسول ، فقد أعده الله  على عينه لتحمل عناء الرسالة وتكاليفها ، وحفظه من كل شر وسوء ،ورباه على كرائم الأخلاق  وصفات الكمال ،وأصبح نموذجا للإنسان الكامل . (63ـ 91 )
4 ـ  ينتقل المؤلف إلى الحديث عن البعثة المحمدية، وإلقاء الضوء على محطات سريعة في حياة الرسول، والإشارة إلى بعض المواقف التي  تعد إرهاصا لانبلاج النور، وفي الوقت نفسه تهيئة نفسية محمد  صلى الله عليه وسلم  لاستقبال الرسالة الخالدة ،وقد تمثل ذلك في اليتم الذي أصيب به في طفولته ، ثم اشتغاله برعي الغنم وهي مهنة تحتاج إلى  قدر كبير من الصبر والجلد ، والتأمل فيما حوله من الفضاء الواسع والهدوء الذي يشمل المكان ،ومع نضجه الجسمي بدأ يشارك في رحلات التجارة ومنها عمله في تجارة السيدة خديجة ،وقد تجلت صفات الأمانة ،والصدق في القول، ورقة الجانب والدماثة  في التعامل جلية لمن حوله ومن تعامل معه ،ثم توج ذلك بزواجه بالسيدة خديجة حيث وجد العش الهادئ والحنان الدافق  ونعم السند والمعين ، وحينما قامت قريش ببناء الكعبة ،اختلفوا فيمن يكون له شرف وضع الحجر الأسود ،وطبيعة المجتمع قائمة على الفخر والتفاخر ،وكادوا أن  يقتتلوا لولا أنهم اتفقوا أن  يحكموا أول رجل يدخل عليهم ،ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم  هو الطالع فقد استبشروا بمقدمه وصاحوا هذا الأمين. وقد حل المشكلة حلا عقلانيا يدل على رَجاحة العقل وبُعد النظر . كذلك من الوقائع التي حضرها محمد وشارك فيها وكانت تهيئة لنفسه وبناء تفكيره ؛مشاركته في حلف الفضول مشاركة إيجابية ،إذ اتفقت قريش على مناصرة المظلوم والانتصاف من ظالمه ورد الحق له ،وبعد بعثته كان يذكره دوما ،ومن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم  كان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب وهذه إحدى المعجزات ،وقد تواترت الأخبار بذلك فضلا عن الآيات القرآنية التي أكدت ذلك وليس بعد القرآن دليل ، ومن صفاته السامية نفوره من عبادة الأصنام ،وحبه للعزلة والانفراد بنفسه للتأمل في ملكوت السموات والأرض ،وإدراكه للرؤى التي كانت تأخذ بمجامع قلبه وتتكشف في الواقع  ،وتمده بإحساس صادق أنه مهيأ لرسالة كبرى سينهض  بأعبائها وأن الأقدار تعده لمهام جليلة داخل هذا الكون ،ولم تكذب أحاسيسه ونداؤه الباطني ،ففي إحدى مرات تعبده جاء الوحي ،وطلب منه أن يقرأ ،وقرأ عليه (اقرأ باسم ربك الأكرم  ) ،وعاد إلى خديجة يروي لها هذه الواقعة الكونية ،فطيبت خاطره وهدأت من روعه وبشرته بالرسالة   ،ثم أخذته لابن عمها ورقة بن نوفل تستفسر منه عن ذلك فبشرها بنبوة محمد . وكانت خديجة أول من آمن بالرسول ،ومعها علي بن أبي طالب الذي كان يعيش في كفالته ،ثم صديقه الأثير أبو بكر ،الذي أقنع بعض وجهاء قريش بالدخول في الإسلام ،ومنهم عثمان بن عفان ،وبدأت شجرة أنصار الدين الجديد تورق وتينع وتزهر وتثمر الثمار الناضجة . ثم حانت لحظة الإعلان التي انتظرها التأريخ الديني ،فجهر بالدعوة في وسط قبيلته وعشيرته الأقربين ،وبدأت مرحلة الصراع بين الحق والباطل والخير والشر والمؤمنين والكفار ، وهذه هي جدلية الحياة وسمة من سماتها الرئيسة .وبعد أن  اشتد بطش قريش بالرسول وأصحابه الذين كانوا يجتمعون في دار الأرقم ،وزاد عسفها ،وقدمت الدعوة الجديدة أولى شهدائها من آل ياسر ،لم يجد مفرا من توجيه أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة ،بسبب التواصل التجاري بينهما فضلا عن أن النجاشي  من أهل الكتاب ،وعلى الرغم من محاولة قريش استرداد هؤلاء المؤمنين إلا أن النجاشي أفشل محاولتهم التي قام بها عمرو بن العاص ، ولم تهدأ ثائرة قريش التي قررت محاصرة بني هاشم فوضعوا صحيفة يتعهدون فيها بمقاطعتهم  . ثم توالت المحن على الرسول بموت عمه أبي طالب الذي كان يحميه من بطش قريش ،ووفاة زوجته خديجة المؤنسة له في وحدته والسند النفسي الذي يشد من عضده ،حتى سمي هذا بعام الحزن ، استجمع الرسول صلى الله عليه وسلم  أشتات نفسه الحزينة ،وقرر مواجهة الصعاب ،إذ كان مؤمنا إيمانا صادقا أن الله ناصره ،وهكذا عانى الأنبياء قبله من عنت أقوامهم وظلمهم ومكرهم ،فتوجه إلى  الطائف يدعوهم إلى  كتاب الله ونبذ عبادة الأصنام ،ولكن مردود الرحلة كان محزنا ،لأن سفهاء القوم آذوه وسخروا منه ،فتركهم وولى وجهه إلى  صاحب الملكوت يشكو له ظلم الإنسان لأخيه الإنسان الذي جاء يخرجهم من الظلمات إلى النور .( ص94 ـ 118 ).
5 ــ بعد أن توالت الأحزان على الرسول  صلى الله عليه وسلم  ، من موت أحبائه وتعنت رؤساء قريش ،ونفورهم من الإيمان بالله ،كانت حادثة الإسراء والمعراج تسرية عن همومه  الإنسانية وبلسما لجروحه النفسية ،وإبلاغه أن العناية الإلهية ترعاه ولم تتخل عنه ،وإعطاءه دفعة  روحانية ،و كانت هذه الرحلة تكريما له وإعلاء من شأنه ،إذ أسري بالرسول بالجسد والروح والعقل واليقظة ، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وصلى بالأنبياء ؛ودلالة ذلك تؤكد أن الإسلام مكمل لما قبله من الديانات السماوية ،هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،تظهر مكانة  بيت المقدس وأهميته للمسلمين ،ثم عرج به إلى السموات العلى  .  ورأى المشاهد التي تقرر جزاء الإحسان ومنقلب الكفار .
( ص 122 ـ 131 )
6 ـ في حديثه عن الهجرة النبوية يتحدث المؤلف عن مفهومها في عقول المسلمين ووجدانهم ؛وتعني هجرة المجتمع الوثني الذي رفض الهداية النبوية ،والانتقال إلى الحياة الجديدة المزينة بالإيمان وتأسيس مجتمع جديد يقوم على الشورى والعدالة الاجتماعية ،وتكافؤ الفرص والمساواة العادلة القائمة على الكفاءة وبذل الجهد وعظمة  المواهب .وقد اختار الرسول  صلى الله عليه وسلم  المدينة لأسباب جوهرية أهمها : وجود قبيلتي الأوس والخزرج وهما قبيلتان أّزديتان قحطانيتان ،في حين أن سكان مكة وما حولها كانوا من العدنانيين الذين ينظرون إلى قريش نظرة تقديسية ،هذه نقطة ،والثانية :أن المدينة كانت تتميز بالزراعة و مكتفية بإنتاجها الغذائي ،والثالثة أنها تمتاز بموقع ممتاز حصين  يساعدها في صد الأعداء .والرابعة :أنهم بايعوا الرسول  صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة ،واعتنقوا الإسلام ،وأصبحوا نسيجا من الدعوة الفتية .
ولاشك أن خلع الرسول  صلى الله عليه وسلم  اسم المدينة على يثرب ،له دلالته التي تنبئ أنها مقر الدولة الموعودة والحكومة الجديدة بكل مؤسساتها السياسية والاقتصادية والعقلية ؛أي بداية للإسلام الحضاري ،وظهرت تجليات ذلك في توحيد النسيج الاجتماعي في المدينة عن طريق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولأهمية الهجرة التي تعد فتحا لانطلاق الإسلام إلى الآفاق علينا أن لا نهمل هذا التأريخ ونعيد له اعتباره في التقويم  السنوي .وقبل أن يختم حديثه عن الهجرة يشير إلى دستور المدينة ،أي المعاهدة التي عقدها الرسول  صلى الله عليه وسلم مع اليهود وعاهدهم على التسامح وترك لهم الحرية الدينية كاملة، ووضع لهم قواعد ومواد تشبه دساتير العصر ،تحدد طبيعة العلاقة بين المتعاهدين .وقد أشار إليها الكثير من المفكرين المعاصرين ،وحللوا عناصرها ورأوا أنها  تحتوي على أكثر من 47 مادة في رأي البعض و70 مادة في رأي البعض الآخر ، وقد فصلها المؤلف وحلل موادها وتعد التعبير الصادق  للمواطنة الصالحة والعيش المشترك .( ص 114 ـ 145 )
7 ــ ثم يقف المؤلف أمام غزوة بدر(2 هـ) ويطلق عليها اسم أم المعارك ،ويتحدث عن أسبابها ،وتفاصيلها ؛ومنها خروج الرسول  صلى الله عليه وسلم  من المدينة متوجها لملاقاة قافلة قريش ثم تحول الأمر إلى صدام مسلح بين قوتين غير متكافئتين عددا وعدة ،إلا أن المسلمين كان يطلبون الشهادة ،وعندهم طاقة روحية تفل الحديد ،وقد انتهت بنصر حاسم ،وكان من أهم نتائجها المبهرة إعادة الاعتبار للمسلمين والتمكين للإسلام في الجزيرة وارتفاع الروح المعنوية في صفوفهم ، وقتل صناديد قريش .علاوة على الدروس المستفادة منها وأهمها تحقيق مبدأ الشورى  والمساواة ،وأهمية العقيدة في الحرب .والإعلاء من شأن العلم . ثم ينتقل المؤلف للحديث عن غزوة الخندق ويتناول بالتفصيل  أسبابها و تعاون المسلمين في حفر الخندق وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تجمع الأحزاب من قريش وباقي القبائل ،أضف إلى ذلك اليهود الذين نقضوا العهود وانضموا إلى قريش، وحصارهم للمدينة  ،ثم المناوشات التي وقعت بين الفريقين ،وتدخل العناية الإلهية بضربتها القاضية بواسطة الريح الصرصر الشديدة ،فشتت شمل قريش وأعوانها ،وكان النصر خاتمة المطاف .
ويتابع المؤلف حديثه عن انتصارات الرسول  صلى الله عليه وسلم  وكان دخول مكة (8 هـ) تتويجا لانتصاراته المبهرة وتمدد الإسلام في شبه الجزيرة ،فيشير إلى أسباب فتح مكة ،وتقدم جيشه الظافر تجاه المدينة المقدسة ودخوله بسلام وتحطيمه الأصنام وعفوه  عن القرشيين ،ومقولته الخالدة : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
وكان من أهم نتائجها انتشار الإسلام في داخل الجزيرة ،وانطلاقه  إلى الآفاق .وحينما عاد الرسول إلى المدينة جهز جيشه للذهاب لمقاتلة الروم في تبوك (9 هـ) للبرهنة على مدى قوة الإسلام وقد جاءت بعد غزوة مؤتة ،وبراعة خالد في انسحاب جيش المسلمين ،ويشرح المؤلف أسبابها ،ومنها عزم هرقل غزو بلاد المسلمين والاستعداد لها ،وظهور حركة المنافقين نظرا لشدة القيظ  وتخلف بعض المسلمين ،ثم تقدم الجيش بقيادة الرسول   صلى الله عليه وسلم  إلى تبوك ،وانسحاب جيش الروم ، وعقده الصلح مع أهل أيلة والجرباء، ثم عودته  ظافرا إلى المدينة . (156 ـ 236)

الاثنين، 6 يناير 2014

على لِسانِها


على لِسانِها 






أَبِيْعُ "العِلْكَ" فِي السَّاحَاتِ بُؤْسا 
               وقَلْبُ عُرُوْبَتِي قَدْ بِيْعَ بَخْـسا
وَلَمْ تُضْحِ الضَّمَائِرُ فِي ظُهُوْرٍ 
               وَلَمْ تُمْسِ النُّجُوْمُ طُمِسْنَ طَمْسا
رَبِيْعِي دَاْئِمًا يَأْتِي بِخَيْرٍ
               فَمَاْ بَاْلُ الرَّبِيْعِ يُذِيْقُ بَأْسا 
وَيَقْمَعُ طَيْرَنَا المَيْمُوْنَ حُرًّا
               يُيَتِّمُ زَهْرَةً وَيَصُدّ ُشَمْسا
وَيَهْذمُ لَذَّةَ الطِّفْلِ الشَّرِيْدِ 
               وَلَاْ يُبْقِيْ لَهُ صَوْتًا وَهَمْسا
ويُحْزِنُ فِي الأَصِيْلِ بَنَاْتِ خِدْرٍ
               فَلَمْ نَرَ بَعْدَ هَذَاْ اللَّيْلِ عُرْسا
وِإِنْسَاْنِيَّةٌ صَاْرَتْ هَبَاْءًا
               وَقَلْبٌ فِي جَحِيْمِ الذُّلِّ أَمْسى
بَنِي قَوْمِيْ : أَجِيْبُوْا لَسْتُ أَدْرِي ؟!
               أَغَاْبَ ضَمِيْرُكُمْ أَمْ ضَاْعَ مَسّا ؟
أَلَاْ اْتَّحِدُوْاْ، فَحَاْلِيْ اليَوْمَ هَذَاْ 
           أَبِيْعُ "العِلْكَ" فِي السَّاحَاتِ بُؤْسا 



إسماعيل بن سعيد المحاربي
               
             
               

الخميس، 26 ديسمبر 2013

قراءة في كتاب معالم السيرة النبوية «1»


قراءة في كتاب معالم السيرة النبوية «1»
جريدة عمان
د. محمد عبدالرحيم الزيني – أستاذ الفلسفة الإسلامية -
صدر منذ فترة قليلة كتاب (معالم السيرة النبوية) تأليف سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي في طبعة راقية وتجليد فاخر، عن دار الضامري للنشر بمسقط، ويتناول محطات سريعة، من التأريخ القديم تضرب في أعماق التأريخ بداية من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، إلى سيد الأنبياء محمد ـ صلى الله عليه وسلم، ويقف وقفات طويلة أمام حياة الرسول ومبعثه وبعض غزواته.
والكتاب عبارة عن جملة من البحوث والمحاضرات، واللقاءات الصحفية، كتبت في مناسبات مختلفة وأوقات متباعدة. يجمعها وحدة الموضوع ودورانها حول سيرة الرسول الكريم.
ولا شك أن الموضوع ليس جديدا، فكافة المسلمين في أقطار الأرض يحتفلون بالمناسبات الدينية وأعظمها ميلاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهجرته من مكة المكرمة بعد أن نبا به المضجع إلى المدينة أرض الرجاء والأمل، ورحلته المعجزة أي الإسراء والمعراج، وقد يتبادر للقارئ المتسرع أن هذه قضية قتلت بحثا ودراسة وتمحيصا، ولكن المفاجئة الرائعة أن المؤلف حينما أطلق على كتابه (رؤية تحليلية ونظرة تصحيحية)، كان صادقا مع نفسه أولا، ومع القارئ ثانيا، وأنه بنظراته الثاقبة وتحليلاته العميقة ومنهجه المحكم واستيعابه للتأريخ الإسلامي بعامة والتأريخ العماني بخاصة، قدم لنا أفكارا جديدة ورؤى مغايرة لما قرأناه سابقا عند بعض المفكرين الكبار والكتاب الجهابذة، أمثال، الدكتور محمد حسين هيكل (ت 1956 ) في (حياة محمد)، والعقاد (1963) في عبقرية محمد، والشيخ محمد أبو زهرة (1974) في خاتم النبيين والشيخ محمد الغزالي (1996) في فقه السيرة، والشيخ محمد سعيد البوطي (قتل 2011 ) في فقه السيرة.
ونحن بصدد عرض مجمل لموضوعات الكتاب، ثم نتوقف نناقش الؤلف في بعض القضايا التي طرحها ونتحاور معه أحيانا، ونشاغبه أحيانا أخرى.

أولا: محاور الكتاب

يتكون الكتاب من مقدمة، وثلاثة عشر موضوعا، وهي مضمون الكتاب، تتناول السيرة النبوية بتفاصيلها الرئيسية منذ الإرهاصات الأولى، حتى غزوة تبوك، مرورا بالميلاد والبعثة والهجرة، وهذه ضمت إحدى عشرة مقالة أما الثاني عشر فكان بحثا مستقلا يدور حول جوانب الرحمة في حياة رسولنا، والثالث عشر مجموعة كلمات دينية قيلت في مناسبات دينية.
1 ـ استهل الشيخ السيابي كتابه بالحديث عن العرب العاربة وهم العرب الخلص، والعرب المستعربة، وهم غير العرب الذين امتزجوا في نسيج العرب وتعلموا لغتهم. ويقسم العرب إلى عرب بائدة، وقد اندثروا في الزمن القديم وعرب باقية وكلهم ينتسبون إلى إسماعيل جد العرب وينقسمون إلى قحطانية وقد سكنوا اليمن السعيد، وعدنانية قطنوا الحجاز، أما عُمان فقد ضمت قبائل من القحطانية والعدنانية.
ثم يتوقف للحديث عن أبي الأنبياء ويشير إلى ولادته في بابل بالعراق، ورفضه عبادة الأصنام، وجداله مع قومه وإلقائه في النار ثم أنقذه اللطف الإلهي، وارتحاله إلى حران في بلاد الشام وزواجه من سارة، ثم تكررت القصة ثانية مع عبدة الكواكب وجداله معهم، ولما لم يجد منهم استجابة لعبادة الله وتجافيا عن تعاليمه، رحل إلى فلسطين وأقام فيه عشر سنوات، إلا أن البلاد أصابها قحط شديد، فولى وجهه إلى مصر، وهناك وقعت القصة المعروفة مع فرعون مصر الذي طمع في الزواج من سارة، ولما تكشفت الحقيقة لفرعون، وهبه الكثير من العطايا والهدايا الثمينة، وأهدى سارة جارية قبطية هي (هاجر).
أما قصة إسماعيل عليه السلام، فبعد أن استقر إبراهيم عليه السلام في فلسطين، وأدركت سارة استحالة الإنجاب وهبت هاجر له فدخل بها فحملت، ولكن تقلبات النفس الإنسانية وأغوارها عجيبة، إذ تفجرت غيرة سارة فعكفت على إيذاء هاجر التي لم تتحمل هذا الجفاء والإيذاء فخرجت هاربة هائمة على وجهها، ولكن الملاك خاطبها أن تعود وبشرها أنها ستلد مولودا ذكرا، وعادت وولدت ابنها إسماعيل عليه السلام، إلا أن سارة طار عقلها، ولم تعد تتحمل وجودها فأمرت إبراهيم أن يطردها، ثم تشاء العناية الإلهية أن تحمل سارة وتضع مولودها إسحاق، إلا أن سارة مضت في طريقها وأصرت على طرد الجارية وابنها، فقام إبراهيم عليه السلام بطردها بعد أن زودها بالطعام والماء، وهامت على وجهها في الصحراء حتى نفد الماء، وأخذ وليدها يبكي، فناداها الملاك وأرشدها إلى بئر ماء، وعاشت في هذا المكان حتى كبر إسماعيل عليه السلام، فاتخذت ؟؟أمه؟؟ له زوجة مصرية.
هذه هي الرواية التي تناقلها المؤرخون المسلمون نقلا عن التوراة مع بعض التعديلات كي يوائموا بين ما ورد فيها وما ساقه القرآن، ورصدها شيخنا ؟؟ببعرها وبجرها؟؟ مع عدم تسليمه بوقائعها.
على أنه توقف عند ذلك وعرض القصة ثانية من وجهة نظره، ومن منظوره الخاص، إذ ذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام بعد أن أقام في قومه ودعاهم لعبادة الله الواحد، ثم آذوه ورفضوا الانصياع لأوامره وتوجيهاته، هاجر إلى مكة بأمر من الله وهي هجرته الأولى، ويطرح احتمالين، إما أن يكون قد تزوج هاجر من قومه وهاجر بها إلى مكة، أو يكون تزوجها من عرب الحجاز الذين كانوا يعيشون حول الحرم، وقد عاش فيها فترة طويلة أنجب فيها إسماعيل عليه السلام، ووقعت له الأحداث التي أشار إليها القرآن، وهي الرؤية والذبح والفداء وبناء الكعبة، ثم تزوج إسماعيل وأنجب نسلا صاروا ذرية إبراهيم. ويؤيد وجهة نظره بما ورد في سورة (الصافات الآية 83 ــ 113).
أما الهجرة الثانية، فبعد أن اطمأن إبراهيم عليه السلام، على ابنه إسماعيل وذريته، الذي اشتد عوده وتحمل مسؤولية الرسالة إذ صار نبيا رسولا، عاد أدراجه إلى قومه فوجدهم عاكفين على عبادة الأصنام فظل يعظهم ويجادلهم لعلهم يرعوون ويؤمنون بالإله الواحد، إلا أنهم أغلقوا عقولهم وهموا أن يحرقوه ثانية، فلم يجد بدا من الهجرة ثانية ومعه لوط إلى الأرض المباركة ولعلها بلاد الشام، حيث بشره الله بإسحاق ومن بعده يعقوب. وعول في ذلك على الآيات الواردة في سورة (الأنبياء 51 ـ72).
على أنه يرفض أن تكون هاجر أمة مصرية أهدتها سارة لزوجها إبراهيم عليه السلام، لأن هذه القصة تفوح منها رائحة العنصرية، والقصد منها الاستنقاص من العرب. وقد تكاثر نسل إسماعيل عليه السلام وتفرقوا في جزيرة العرب ومنهم القحطانية والعدنانية وهما أبا العرب العاربة، وقبل أن يختم هذا الفصل يجيب عن سؤال، لماذا تقدم ذكر إسحاق على إسماعيل في القرآن المكي، وتقدم إسماعيل عليه السلام عليه في المدني؟، وأجاب: لما كانت العرب ولا سيما قريش تعتد اعتدادا مبالغا فيه بنسبها لإسماعيل عليه السلام، فأراد القرآن أن يخفف من هذا الغلو ويكبح جماح هذه النزعة العنصرية. أما وانتقل العرب إلى المدينة وكان اليهود معتدين بالانتساب لإسحاق إلى حد الاستعلاء العنصري، والادعاء أنهم أبناء الله وشعبه المختار، فأراد الله أن يتحداهم ويبين لهم أنهم ليسوا بأفضل نسبا من العرب، إذ أن الكل تعود جذوره إلى إبراهيم أبي الأنبياء. (ص 13 ـ 28).