Powered By Blogger

الجمعة، 13 ديسمبر 2013

وقفة مع كتاب الاستبداد مظاهره ومواجهته (3)


وقفة مع كتاب الاستبداد مظاهره ومواجهته (3)

يواصل الدكتور: محمد عبدالرحيم الزيني أستاذ الفلسفة الإسلامية  عرضه لكتاب سماحة الشيخ احمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة (الاستبداد مظاهره ومواجهته) موضحا ما جاء في  القسم الثاني منه تحت عنوان (مواجهة الاستبداد)  يقول الزيني: يعرض شيخنا في لقطات سريعة إلى الثورات التي هبت في وجه ظلم الأمويين، ويوضح  أن الأمة لم تستكن لهذا الهوان والطغيان، ويستعرض عددا من الثورات التي واجهت حكمهم؛ ومنها ثورة الحسين سيد الشهداء (60هـ) وقد حزت رأسه، ولم تهدأ ثورات العلويين وأنصارهم، إذ كانوا يمثلون المبادئ المثالية في الإسلام، وفي عهد هشام ثار زيد بن علي (122هـ) في الكوفة، مؤسس المذهب الزيدي، ولم يكن حظه أفضل من أعمامه، فقتل شر قتلة؛ بل تروي الروايات أنه بعد أن دفن نبش قبره، وأخرجت جثته، وصلب جسده بالكوفة وأرسلت رأسه إلى دمشق فنصب علي بابها، وظل مصلوبا حتى مات هشام وولي الوليد بن يزيد فأمر بحرق جثته، وطورد ابنه يحيى بن زيد الذي فر على إثر مقتل والده حتى  وصل إلى خراسان  حتى قبض عليه ومثل بجثته، ولم يزل مصلوبا حتى ظهر أبو مسلم فأنزل جثته وصلى عليها.
وثورة عبد الله بن الزبير في مكة، وكذلك ثورة عبدالرحمن بن الأشعث لمواجهة ظلم الحجاج  وطغيانه وانضم إليه جمهرة من العلماء الورعين منهم ؛  سعيد بن جبير.
على أن  شيخنا يتوقف طويلا أمام ثورة عبدالله بن يحيى الكندي، طالب الحق وقائده المقدام أبي حمزة الشاري، ويخصها بمزيد من الشرح والإيضاح لأسباب أهمها ؛ أنها تنتمي إلى مدرسة الإباضية التي ناضلت وصبرت وثبتت أقدامها في أرض الإسلام، واقتدت بحكم  الخلافة الراشدة، وقدمت نموذجا حيا للفداء والحكم العادل، هذا أولا، وثانيا أنها تمكنت من هزيمة قوى الشر وجحافل الباطل، وثالثا، اختلاف آراء المؤرخين حولها ما بين منصف لها، وشأني عليها. ويستفيض في شرح أبعاد الثورة؛ نشأتها وأسبابها، ومسارها، منذ ظهورها في حضرموت واليمن، ودخولها أرض الحجاز، ثم تقدمها بجرأة الحق وصدق الاعتقاد، استطاعت أن تدخل مكة المكرمة، وخطبه المتوالية التي أعادت إلى الإسلام وجهه المشرق، ويحلل عناصرها ويستنبط منها موجز دعوته، وهي توحيد الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك خطب قائده  أبي حمزة  في المدينة المنورة حتى صارت خطبه، أيقونة للثوار تناقلتها الأجيال  لمضمونها الذي طرح مبادئ الإسلام النقي، وأعاد سيرة الخلفاء الراشدين إلى أرض الواقع، إلا أن الدولة الأموية لم تتوان في إرسال جيش  بقيادة عبد الملك بن عطية السعدي، وتقابل مع جيش الثوار بقيادة أبي حمزة ؛ الذي خطب في جيشه خطبا نارية يستحثهم على الصبر وجهاد الظلمة، واستبسل هو وجيشه وأبدوا صنوفا من  الاستبسال والشجاعة،  وقدموا  أروع ضروب التضحية  والفداء، وبذلوا أرواحهم فداء لإعلاء كلمة الله، ودارت عجلة الهمجية فقطعوا رؤوسهم ومثلوا بجثثهم، وصلبوهم كما هي عادتهم. ( 130 ـ 170 )
ثم يعود شيخنا إلى كتب التاريخ القديم والحديث يستعرض رأي العلماء المنصفين الذين دافعوا عن ثورة طالب الحق وخطيبه المفوه أبي حمزة، ويسجل رؤية شهداء القسط، ثم يتحول إلى وجهة نظر المغرضين الذين حطوا من شأن  الثورة.  إلا أن شيخنا يتصدى لهذه المقولات البائسة التي عادة ما يفرضها المنتصر بالباطل ويشيعها بين الناس، ويستخدم أسلوب الحوار ويعول على القرآن والسنة في دحض رؤيتهم الخبيثة، التي تؤكد على وجوب البراءة من مرتكب الكبيرة. (173ـ 223 )
ثم ينتقل إلى شرح سمات المدرسة الإباضية التي خرّجت طالب الحق وقائده المغوار، وأثرها في الفكر الإسلامي؛ وكيف أنها أخذت على عاتقها إحياء ما أميت من الحق ، وإماتة ما أحيي من الباطل، وجهودها من أجل إعادة حكم الشورى، وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية، وبالجملة إقامة شرع الله حكما عادلا بين الأمة. ويستشهد باقتباسات مسهبة  لوجهة نظر طائفة من  علماء  المشرق و المغرب. ثم يعود  إلى تراث المدرسة الإباضية، يقدم نماذج حية وصورا مثالية  وأمثلة واقعية من الحكام العدول والأئمة الأبرار، قامت في دنيا الناس بأمانة الحكم خير قيام، وضربوا أروع الأمثال في العدل والإنصاف  وسلامة الفكر واستقامة المنهج ، و يقتدون بسلوك الرسول  صلى الله عليه وسلم ويهتدون بأقواله وتقريراته، ويطبقون منهجه في وقائع الحياة ؛ ويعرض عشرات من هؤلاء الأئمة ؛ بداية من الإمام الجلندى بن مسعود، وانتهاء بالإمام محمد بن عبد الله الخليلي، مرورا بالأئمة الرستميين و الصلت بن مالك، وناصر بن مرشد اليعربي، وعزان بن قيس البوسعيدي، ويشير إلى مبايعتهم بيعة شرعية من أهل الحل والعقد ثم توافد جماهير المؤمنين على المبايعة، وسيرتهم العادلة في الرعية ويذكر أمثلة واقعية من مواقفهم الإيمانية، وتعاملهم الحضاري مع رعيتهم، وعدم تميزهم عن سائر أفراد المجتمع وورعهم الشديد وتشددهم في تطبيق مفردات الشريعة، فتشعر أنك أمام مثالية الإسلام، ومبادئه النقية، وبعده الحضاري. (239ـ 277 ).
و يتوقف  أمام ظاهرة أخرى إيجابية  للمدرسة الإباضية، يشرحها باستفاضة وهي اعتدال المدرسة ؛ في مفاهيمها ومنهجها وسلوكها، وبعدها عن الغلو والتطرف، وتجافيها عن التعصب، ومن هذا المنطلق يعرج إلى شرح دورها في محاربة الفكر المتطرف الذي تجلى في سلوكيات الأزارقة والنجدات والصفرية، وتجاوزهم حدود الله، وقصور فهمهم للنصوص الدينية، وكان مردود ذلك ما أحدثوه من رعب بين أركان المجتمع، واستحلال دماء وأموال المخالفين لهم واستعراضهم بالسيف، ويذكر أمثلة عديدة، للحوارات المسهبة التي دارت بين أئمة الإباضية وزعماء الخوارج، لشرح  حقيقة الدين والمنهج السوي، وتبيان انحرافهم عن أصول الإسلام.
ولا يترك شيخنا هذه القضية دون أن يعقب عليها، بكلمة إنصاف فيذكرنا بأن المقدمات الخاطئة تعطينا نتائج  خاطئة، ومن ثم علينا أن ننظر للظروف السياسية والفكرية التي أدت إلى ظهور هذا الفكر المتطرف، ويرجع سبب ذلك إلى ما قاسوه من ظلم الأمويين وعسفهم، وسياسة ولاتهم العنيفة القاسية التي تأخذ بالظنة، ولا شك أن العنف لا يولد إلا  العنف. (ص 278 ــ 289 )
إلا أن شيخنا دخل في حوار طويل مع أنصار الوهابية بسبب هجومهم العنيف على المدرسة الإباضية، والرد على اتهاماتهم، ودفع شبهاتهم وإزاحة الستار عنها، متتبعا هذه الافتراءات، والرد عليها من خلال الاستشهاد بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، وتوظيف الدليل العقلي.(ص289  ـ 322 ). بعد هذا الاستطراد، يعود المؤلف تحت عنوان «عود على بدء  «إلى واقع الثورات  العربية، ويناقش ما صاحبها من فتاوى منحرفة ، وأقوال مهزومة ومأزومة، وآراء مجحفة في حق الشعوب، وقد أراد أصحابها الانتصار «للفئة الباغية «من الحكام، وتبرير ظلمهم، والانحياز الكامل لمعسكرهم، والاصطفاف معهم. ويضرب مثالا على ذلك بالفتوى التي أصدرها الشيخ محمود لطفي عامر رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية، تؤيد بحماس  ترشيح «ابن أمير المؤمنين حسني مبارك  « لوراثة الجمهورية، وعاد يغترف من الجانب المظلم في تأريخ المسلمين فاستشهد بما قام به معاوية، ثم مضى ينتقد المعارضين للتوريث وقال «:إن ورّث مبارك ابنه فقد ورث من هو خير منه قبل ذلك، وهو معاوية كاتب الوحي.  « ( 323 ). ويرد عليه شيخنا بالدليل النقلي والحجة العقلية ويفند أقواله تفنيدا يقبله العقل السليم وتستريح له النفس السوية، ويلمس نقطة غاية في الأهمية، في سياق رده على أصحاب الفتاوى المعلبة والجاهزة للتصدير في كل زمان ومكان ؛ أنهم هيأوا نفوس الجماهير لقبول الضيم، ومهدوا خواطرهم للاستكانة للاستبداد وشوشوا مفاهيمهم، وأحدثوا أعظم الاضطراب في معاييرهم، وقاموا بما قام به كهنة الفراعنة، حتى أصبحت  نفوسهم  قابلة للظلم مستعدة لتحمل القهر، حتى لو جلد ظهره وأخذ ماله. ويرى أن هذه المفاهيم المغلوطة  من  بقايا الإرث الأموي، لكن العجب كل العجب، حينما ولت دولة بني أمية وأدبرت وسقطت بعد هزيمة مروان بن محمد وقتله، ومجيء العباسيين الذين ساروا على نفس نهج الأمويين، يعود هذا النفر الذين مدحوا الأمويين، يسارعون في مدح العباسيين ويذموا أفعال الأمويين مرة أخرى ويبالغون في إظهار عوار سلوكهم وينشرون  مثالبهم، ويتعقب شيخنا مقولات المؤرخين التي ذموا فيها بني أمية تقربا وتزلفا للعباسيين، وألصقوا بهم تهما عظيمة حتى نسبوهم إلى الشرك والكفر وأخرجوهم من ملة الإسلام، ويستشهدون  بأحاديث منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم يلعن فيها بني أمية  قاطبة، وينقل نصوصا خطيرة من تأريخ الطبري (310هـ) تخرجهم من دائرة الإسلام، ويكذب كل ذلك، ويسفه وجهة نظرهم، ويؤكد أن كل هذا مدسوس ومفترى على بني أمية من أعدائهم.
وهذا لم يمنع شيخنا أن يتعرض لمظالم العباسيين، واستئثارهم بالسلطة، وإضفاء صفة القداسة على حكمهم، والادعاء بأن  الحاكم ظل الله في الأرض،  وحياة الترف والبذخ  والخمر  التي عاشوا فيها، ومطاردتهم للأمويين وتقتيلهم وإخراجهم من قبورهم وضربهم بالسياط وحرقهم، وكلها أفعال منافية لأبسط قواعد الأخلاق، كذلك لم يتورعوا عن تتبع مظان العلويين وقتلهم شر قتلة ؛ ولم يكونوا بأولاد عمومتهم أرحم من الأمويين، حتى قال شاعرهم:
فليت جور بني مروان دام لنا            وليت عدل  بني العباس في النار
ويخلص من هذا النقد إلى تقرير حقيقة تأريخية، وصفة نفسية، لازمت كثيرا من المؤرخين وأصحاب الفتاوى الجاهزة، إذ يولون ظهورهم لدولة المهزوم، وشمسها الغاربة، ويستقبلون بوجوههم وقلوبهم ووجدانهم دولة المنتصر ويدورون في فلكها الجديد ؛ يقول:»إنهم لا يبقون على وجهة سياسية واحدة، وإنما يتقلبون سلبا وإيجابا بحسب ما تتجه الأحداث من إقبال على أحد أو إدبار عنه، فلا يلبثون أن يتحولوا من عداوة من يعادون وسبابه، إلى ولايته وإطرائه إذا دالت له الأيام وأقبلت عليه الدنيا.» ( ص 334 )
ــ قبل الختام، يقف شيخنا في محطات سريعة وقفة تأملية، كأنها مناجاة نفسية،  بينه وبين نفسه المتألمة من أوضاع عالمنا الإسلامي، ومشفقة على واقعه المر ويستعرض ذلك في النقاط الآتية.
1ـ إن انقلاب موازيين الأمة حوّلَ المصائب إلى أمجاد، والأقزام إلى عمالقة.
2ـ العلاقة العضوية بين الترف والتلف، والاستبداد والخراب. وتحذير القرآن من الركون إلى مباهج الدنيا ونسيان الآخرة بنعيمها وعذابها.
3 ـ انقلاب المعايير في واقع الأمة، أدى إلى إعجاب بعض أفراد الأمة بترف المترفين  والمستكبرين الذين تطاولوا على الله وادعوا أنهم أرباب من دونه، ونسوا تعاليم القرآن ووعيده للمتكبرين  والمفسدين والجبارين. ويضرب مثالا على ذلك بمدح أحمد شوقي (ت 1931 ) للفراعنة، وثنائه عليهم ووصفهم بأفضل الأوصاف وأجمل النعوت، يصل إلى درجة التأليه، ويستنكر هذا المديح بشدة، ويتعجب من  هذا الثناء  للجبابرة  الذي لم يلتفت إليه أحد من رجال الفكر، ويعتقد أن هذا المديح  يغترف من  تراث بني أمية.ويأمل شيخنا من قادة الفكر، أن يعودوا إلى المنهج الأصيل منهج القرآن والسنة، والاغتراف من  هذا  النبع الصافي، ويسلكوا مسلك الخلافة الراشدة، ويقودوا الأمة إلى بر الإيمان والأمان.
5 ـ  أما الوقفة الأخيرة فمع عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902 ) أحد زعماء الإصلاح، أهمتُه أمور أمته، ونظر في أسباب تخلفها والتي أدت  إلى تخلفها عن ركب الحضارة، وحاول أن يشخص أمراضها، وقد لخصها في العناصر الآتية. الاستبداد  وهو ؛ «صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب «ثم يسهب في الأضرار الناتجة عن الحكم المستبد. ــ الفتور العام الذي اتصف به المسلمون، ويقصد به ضعف الهمة، وانخفاض مستوى الطموح. واللا مبالاة في العمل. ــ سيطرة فكرة الجبرية على عقول المسلمين واعتقادهم أن الإنسان بلا إرادة وأنه مسير مثل الريشة.
ــ إهمال مبدأ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ــ علماء السلطة، الذين يكتمون الحق ويبررون تصرفات الحاكم.(335 ـ 350 )