Powered By Blogger

الاثنين، 10 فبراير 2014

قراءة في كتاب – معالم السيرة النبوية (4)


للدكتور محمد الزيني
6ــ تعرض المؤلف لمسألة لقاء الرسول ببحيرا الراهب النسطوري، وقد استرحت كثيرا عندما رفض القصة وأراحنا من هذا العبث الذي ذكره بعض المؤرخين في تفاصيل هذه الرواية، ونعتقد أنهم قصدوا من ذلك البرهنة على أن أهل الكتاب كان عندهم علم بظهور رسول من العرب، ونحن نؤمن بذلك لأن عندنا آيات القرآن التي ذكرت ذلك بصورة واضحة، ومن ثم لسنا في حاجة إلى نبوءة راهب نسطوري أو غير نسطوري، وقد استغلها المستشرقون ودبجوا منها حكايات، ونسجوا منها روايات أقلها أن بحيرا هو الذي علم الرسول ووجهه وألف له القرآن، وقد ناقشت هذه القضية بتوسع في كتابي: تجديد الخطاب الديني، والمستشرقون وعلم الكلام، واستشهدت بوجهة نظر الشيخ محمد الغزالي الذي رفض القصة رفضا قاطعا. هذه قضية.
والقضية الأخرى أن المؤلف رفض حادثة شق الصدر كما جاءت ساذجة في كتب المؤرخين والطست الذي من ذهب والخيط الأسود، وله سلف صالح سبقوه في هذه الرؤية فقد أنكر ذلك حسين هيكل والشيخ الغزالي وغيرهم من المفكرين المعاصرين لأن الله يعد أنبياءه إعدادا روحيا ونفسيا وعضويا ويمنحهم مواهب متعددة، ويربيهم على عينه، ويهبهم من عطائه ما يجعل منهم قدوة للبشرية، وحاز رسولنا كل صفات الكمال الأخلاقي، وسمات الإنسان الكامل بسبب العطاء الرباني، مما يجعله بنجوة قصية عن مزالق الطبع الإنساني ومفاتن الحياة الأرضية، على حد تعبير الغزالي (فقه السيرة ص 50).
7ــ حينما تعرض المؤلف لزواج الرسول من السيدة خديجة وهي في أعلى ذرى المجتمع القرشي نسبا وحسبا ونبلا وجمالا ومالا وعقلا وحكمة وحنكة، لم يشر إلى أنها بلغت الأربعين وأن عمر الرسول خمسة وعشرين عاما كما درج عليه رواة السيرة ؛ولا ندري أيوافق على هذه الرواية، أم عنده رأي آخر؟
الحقيقة أن في نفْسي شكا كبيرا في رواية المؤرخين لأنهم أرادوا بطريقة شعورية أو لا شعورية أن ينفوا عن الرسول صفة الشهوانية وميله الجنسي للنساء كما يدعي الآن المستشرقون ويعزفون عليها لحنا نشازا وأصواتا منكرة.
ولكن هناك رواية أخرى ذكرها عبدالله بن عباس تبين أن عمر خديجة ثمانية وعشرون عاما، وهي أدعى للقبول، ونستطيع أن نبرهن على صدقها بالآتي:
أ- من المعلوم أن الفتاة تبلغ مبكرا في الجزيرة العربية وتتزوج في وقت مبكر، وهذا يدلل على أن خديجة حينما تزوجت الزواجين السابقين كانت في سن العاشرة أو أكثر ومات زوجها الأول ولم تدم عشرة الثاني.
ب- امرأة في وضعية خديجة جمالا ومالا لا يمكن أن تبقى طوال هذه المدة الطويلة دون زواج وهي مرغوبة من صناديد قريش وكبرائها.
ج- أنجبت السيدة خديجة سبعة أولاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المستبعد أن يكون هذا الإنجاب المتواصل بعد سن الأربعين، لا سيما وانقطاع الدورة الشهرية عند كثير من النساء تبدأ في هذه السن. علاوة على أن علامات الكبر والشيب تظهر في النساء أسرع من الرجال بسبب التكوين الجسمي أي الحمل والولادة.
د- نظرا لمكانة الرسول ونسبه وحسبه وأصله، من العسير أن يوافق على الزواج من امرأة تكبره بخمسة عشر عاما، فقدت زهرة شبابها ونضارتها وجمالها وهو في شرخ الشباب وسن الفتوة والعطاء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف يوافق أعمامه على هذا الزواج، ثم إن مجتمعاتنا العربية حتى الآن تستهجن الفوارق الكبيرة في السن لاسيما إذا كانت المرأة هي الأكبر سنا.
هـ- ناقش العقاد هذه القضية بأسلوبه الفذ ونظراته العميقة وتحليله العبقري، وانتصر لرواية ابن عباس، ونبذ الرواية الأخرى. (فاطمة الزهراء ص 12)
8- في حديثه عن وفاة أبي طالب والسيدة خديجة والذي سمي بعام الحزن أشار المؤلف إلى فقدان الرسول صلى الله عليه وسلم السند الذي كان يحميه، والذي كان يقف حائلا بينه وبين عدوان القرشيين، إلا أنه لم يعلق على موت أبي طالب؛ أمات مؤمنا كما زعم الشيعة أم كافرا كما هي رواية أهل السنة وأنه في النار من أخمص قدميه إلى قمة رأسه؟
الحقيقة أن الناظر في سيرة أبي طالب يدرك أنه كان أقرب للإيمان منه للكفر، ونحن نرجح أن يكون مات مسلما للأسباب الآتية.
أ- رجاحة عقله وسعة أفقه و لين قلبه وحصافة رأيه وعطفه على الرسول «صلى الله عليه وسلم» وحدبه عليه طوال حياته حتى أدركه الموت.
ب- الحمية عند العرب والنخوة والانتصار لأبناء القبيلة، فضلا عن مكانة الرسول عنده وهو أدرى بأخلاقه وسلوكياته، فلاشك أنه كان يعلم علما يقينا أنه رسول، فمن المستبعد أن يظل على عدائه طوال هذه السنوات.
ج- المحيط الأسري الذي يكتنفه، فالإمام علي كان من الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام وكذلك أخوه جعفر الطيار وعقيل، وكفالته للرسول وحبه الشديد له حيث كان في مقام الأب، هذا الجو المشحون بالإيمان والعاطفة الإسلامية والروح المتدينة لاشك أنها تفعل فعل السحر في تصورات الإنسان، وتهز منظومته الفكرية لاسيما بعد مرور عشر سنوات من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإسلام أخيه حمزة وكذلك شيوخ قريش مثل أبي بكر وعثمان وغيرهم؛ هذه العوامل تجعله أقرب للإيمان من الكفر، وشتان بين شخصيته وشخصية أخيه أبي لهب الذي أعلن حربا شعواء على الرسول من البداية، ولم تكن عنده وشائج متعددة تربطه به كما هو موجود عند أبي طالب.
د_ ربما تكون رواية أهل السنة وضعت من قبل المؤرخين الأمويين نكاية في الإمام علي والحط من شأن أسرته واتهامه في والده، صفوة القول تشويه سيرة أبيه والتنقص منه ومن ثم إضعاف موقفه في مواجهة معاوية.
هـ- تروي كتب الشيعة مئات من الروايات المستفيضة بسند قوي وقصص موثقة تؤكد إسلام أبي طالب.
على كل حال هذه وجهة نظر قابلة للأخذ والرد، وتدعونا للتأمل والتفكير والمزيد من البحث والتقصي، للعثور على الحقيقة الكاملة. والله أعلم.
9- وهو يتكلم عن دور الرسول صلى الله عليه وسلم في توحيد النسيج الاجتماعي في المدينة والوحدة العضوية التي حققها بين الأوس والخزرج، ثم المؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار، يتوقف المؤلف للتأمل في واقعة عجيبة تلفت انتباهه، فيشير إلى رواية المؤرخين التي تتحدث عن تنازل الأنصار عن زوجاتهم للمهاجرين، حيث يقول للمهاجر :اختر زوجة من زوجاتي .
ويعلق على ذلك بأن هذا أمر مستنكر لا يرضاه ضمير العربي فضلا عن المسلم، إذ إن العرب تفخر ببذل المال وتعده من مكارم الأخلاق، والصفات المحبوبة، لكن من غير المنطقي أن يبذل له عرضه فهذا منقصة. (141)
ولاشك أن المؤلف بنظراته العميقة وتدقيقه الفاحص في الروايات، وحسه الديني القوي، وشكه المستمر في روايات المؤرخين وصحبته الطويلة معهم، ومعرفته بهم أنهم قوم مغرمون بإيراد العجائب والغرائب، والإيغال في كل ما هو خارج عن المألوف لجذب انتباه القارئ، هذا يؤهله أن يغربل هذه الأساطير ويقدم لنا المفاهيم الصحيحة عن الدين.
ويفسر الخصاصة الواردة في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر (9) بأنها تعني الحاجة إلى المال وليس العرض. 10- بارك الله لنا في المؤلف، والمؤرخ المدقق، وننتظر منه العطاء المتواصل وكل ما هو جديد، بهذا الطرح المبتكر والأسلوب الطريف، فقد كان كتابه بحق «رؤية تحليلية ونظرة تصحيحية» وإعادة قراءة للسيرة بنظرة عصرية.
والله الموفق؛ نعم المولى ونعم النصير.