Powered By Blogger

الأحد، 2 فبراير 2014

قراءة في كتاب – معالم السيرة النبوية (3)

قراءة في كتاب – معالم السيرة النبوية (3)

جريدة عمان
د. محمد الزيني -
يواصل الدكتور محمد عبد الرحيم الزيني أستاذ الفلسفة الإسلامية قراءته لكتاب “معالم السيرة النبوية” الحلقة الثالثة تأليف سعادة الشيخ: أحمد بن سعود السيابي الذي صدر منذ فترة قليلة. قائلا: في بحث مستقل، ألقاه المؤلف في مؤتمر للسيرة في إسلام آباد عام (1406 هـ/ 1985)، بعنوان “الرسول الرحمة المهداة”، وهي العاطفة السائدة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه الله بهذه الصفة الخلقية العظيمة؛ يتناول المؤلف مظاهر الرحمة في حياة الرسول، ويستعرض هذه الجوانب التي تجلت ظاهرة في رحمته بعشيرته الأقربين ومنها حزنه على وفاة حمزة والعباس وابنته زينب وغيرها من المواقف، وأيضا رحمته، بأصحابه مثل أبي بكر وآل ياسر، ورفقه بالأطفال والنماذج في ذلك عديدة ولعل أشهرها بكاؤه على ابنه إبراهيم، أما تعامله مع الضعفاء والعبيد والحيوان فهو نموذج للرأفة والشفقة، وكان سلوكه يعد منبعا لكافة المواثيق التي صدرت تحافظ على حقوق الإنسان. علاوة على كل ذلك كان سلوكه اليومي وأقواله وأوامره ونواهيه وتعامله مع أعدائه والأسرى سجلا لقواعد الأخلاق والسلوك المثالي والارتقاء بالإنسانية إلى المكانة السامقة. (238 ــ 262)
وثانيا: الانطباعات: نستطيع أن نقرر بصدق أهم الانطباعات التي ترسبت في العقل وأراحت الفؤاد وسرت في الوجدان : ونلخصها في العناصر الآتية:
1 ـ ظهور شخصية الباحث في صفحات الكتاب ظهورا واضحا لا لبس فيه، وطغيانها بشكل جلي في تحليل الحوادث وشرح الوقائع؛ فلا يمر بشخصية قيادية أو حادثة تاريخية أو موقعة من المواقع، إلا يقف أمامها بالدراسة المعمقة والتحليل العلمي والنقد المنهجي، والتعمق في أبعادها، والتفرد بالرأي الطريف الذي يتفق مع السياق ولا يصادم استدلال العقل والاستنباط السليم.
2 ـ تطبيق المنهج الشكي الذي يبدأ فيه الإنسان شاكا وينتهي منه إلى اليقين، تطبيقا صارما كما طرحه الغزالي (505 هـ) في “المنقذ من الضلال “ورينيه ديكارت (1650) في المقال في المنهج والتأملات، والتدقيق في الحوادث وتمحيصها ودورانها في عقله كي تتبلور ويظهر غثها من سمينها وصدقها من كذبها، وعدم قبولها إلا بعد عرض الحجة المقنعة والدليل البرهاني ووضعها تحت مجهر الفحص والتمحيص، ثم يختار الرأي الذي يروق له؛ سواء اتفق مع وجهة نظر المؤرخين القدامى والمحدثين أم لم يتفق، المهم أنه قال كلمته ومضى، وعمل بحكمة سقراط (399 ق.م) ؛قل كلمتك وامض.
3 ـ يسري الحس الديني بين سطور الكتاب من أول صفحة إلى آخرها، ويتغلغل في ثنايا الموضوعات تغلغلا مبهرا، وهذا الانطباع يخرج به الإنسان حينما يقرأ الكتب التي تتناول سيرة الرسول بعامة ،وكتب الإباضية بخاصة، وفي صفحات الكتاب يشعر الإنسان بهذه العاطفة الدينية المتقدة في حبه للرسول وتعظيمه، والاحتفاء بسيرته أيما احتفاء، والاهتمام بكافة ما يتعلق بحركاته وسكناته ؛ مولده وبعثته وهجرته وأعماله وأقواله وسلوكياته، والدفاع عنه دفاعا حاراً، وتفنيد الاتهامات التي طرحها المستشرقون وغير المستشرقين ،الذين أرادوا أن يقللوا من مكانته ويجردوه من ميراث النبوة، ويدعون أن الإسلام معني بالجنس العربي وليس رسالة عالمية لكافة البشر، وكذلك بعض المعاصرين الذين ينفون عنه العصمة قبل البعثة .أو يشككون في بعض تقريراته أو مواقفه، أو يخلطون في سيرته الحقيقية بالخيال والواقعية بالأساطير.
4 ـ التعمق في دراسة تأريخ العرب قبل الإسلام بعامة، والتأريخ الإسلامي بخاصة، والاهتمام بدراسة أصولهم وأنسابهم وقبائلهم وعاداتهم ومظاهر معيشتهم، ورحلاتهم من مكان إلى آخر وأسماء الأماكن وأسباب تسميتها، وفي الوقت نفسه الدفاع عن عاداتهم وتقاليدهم المرتبطة بالبيئة والمحيط الاجتماعي والمزاج العربي البدوي، وإظهار صفاتهم الإيجابية التي كانوا يتسمون بها مثل؛ الشجاعة والنخوة والكرم وحفظ حقوق الجار وسلامة الفطرة وصفاء الباطن فهم على السجية، ولا يتوانى في الرد على الشعوبيين الذين حرصوا أن ينتقموا من المسلمين بسبب زوال دولتهم ويستصغروا شأنهم ويجردوهم من الخلال الكريمة، فنسبوا القصص الكاذبة ،والأساطير الملفقة، والحكايات الغريبة حول سلوكياتهم وعاداتهم.
لقد تكلم المؤلف؛ وعمل بنصيحة سقراط حينما قال للرجل الذي انضم إلى حلقته وظل صامتا، فقال له: تكلم كي نراك. وقد رأينا شخصية متزنة، لها نزعة عقلية واضحة، ومنهج شكي لا تخطئه العين، وحضور جارف، وأسلوب عربي فصيح ؛ بلاغة في القول، وإيجاز في الطرح ، ووضوح في الفكرة ، والبعد عن الألفاظ الغريبة.
ثالثا: حوارات ومناقشات.
1 ــ قرر المؤلف بعد أن أورد سيرة إبراهيم كما وردت في التوراة وكتب المحدثين والمعاصرين، وفيها أنه كذب ثلاث كذبات منها؛ قوله لفرعون أن سارة أخته، وعقب عليها بقوله :”لا نعلم مقدار المصداقية في القصة نظرا لما شاب التوراة من شوائب التحريف” (ص 17).
ونحن نؤيده فيما ذهب إليه في التشكيك في رواية التوراة، مع أنه لم يتعرض لمقولة كذب إبراهيم. على أننا نرفض رفضا كاملا اتهام إبراهيم بالكذب ونسبة ذلك إليه، ونعتقد أن الرواية مضطربة ومدسوسة عليه، ونستطيع أن نفندها، إذ إن القول أنها أخته، تعطي للملك الحق في طلبها زوجة له ما دامت قد وقعت في قلبه، وهذه المصاهرة كانت ترفع من شأن إبراهيم وهو غريب عن وطنه، ثم من يكره أن تتزوج أخته رئيس أكبر دولة آنذاك، ومن ثم فصواب الرواية أن إبراهيم لم يكذب وأبلغ فرعون أنها زوجته، وكان على يقين أن الله حاميه ومنقذه من بطش الملك لا محالة، يقول الشيخ محمد الغزالي: “ما روي من أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات في هذه القصة وغيرها؛ عجز في الرأي وحمق في الفهم، وقد بدأ أهل الكتاب بهذه الأوهام، ثم تسللت إلى مَروياتنا، وهي مستبعدة عند المحققين. (نحو تفسير موضوعي، ص 348).
2 ـ استبعد المؤلف رحلة إبراهيم إلى مصر، وشكك كون هاجر جارية قبطية مصرية، ويرى أن الرواية “تفوح منها رائحة العنصرية، ولا ريب أن يقصد منها استنقاص العرب”. (ص 28).
ونتفق مع المؤلف في إنكاره كون هاجر “جارية”، وقد تعرضنا لهذه القضية في كتابي (المستشرقون وعلم الكلام ص 38) فرواية اليهود قصد منها استصغار شأن العرب، وأنهم “أولاد الجارية” “وعبيد سارة” كما تقول كتبهم، في حين أن اليهود أبناء الحرة!
ونؤمن إيمانا صادقا أنها حرة، لأن الله خلقنا جميعا أحرارا كرماء، ونحن البشر الذين أوجدنا العبودية والذل والاستعباد. لكنني لا أتفق مع المؤلف في إنكار رحلة إبراهيم إلى مصر ورفض الرواية كلية، دون أن يعتمد على مصدر معلوم أو مخطوط محفوظ أو آثار تاريخية، وإنما اجتهد فله أجر الاجتهاد، وعلينا إذا أردنا أن ننفي حادثة تاريخية وندحضها فعلينا أن نقدم الدليل؛ ولا يمكن أن تكون رحلة إبراهيم إلى مصر حادثة عابرة حتى يختلقها المؤرخون أو واقعة ثانوية حتى يهملوها، إنها حدث تأريخي وواقعة مؤثرة في مجرى التأريخ، وقد تواترت الروايات على تأكيد مجيئه إلى مصر، وقد أكد ذلك عبد الوهاب النجار (ت 1941) في “قصص الأنبياء ص 84 “، ود. حسين هيكل في حياة محمد (102)، واستفاض العقاد في كتابه “إبراهيم أبو الأنبياء” شرح المصادر اليهودية والمسيحية والصابئة ومراجع تاريخية لمؤرخين ثقات كلهم برهنوا على مجيئه إلى مصر، وكذلك أبو زهرة في (الديانات القديمة ص 9) هذا أولا، وثانيا يؤكد المؤرخون أن آثار الوحدانية والدعوة إلى عبادة الإله الواحد في مصر نابعة من مصادر متعددة منها رحلة إبراهيم إلى مصر، ومن بعده قدوم يوسف وأبويه وأخوته، وقصة موسى معلومة من القرآن، وهروب مريم من بطش حكام فلسطين ومعها ابنها عيسى حقيقة تاريخية مؤكدة. ورابعا، سيجرد المصريون من ميزة يفتخرون بها وهي: أنهم أخوال العرب، وهذا سيغضبهم ويؤلبهم عليه.
3 ــ في تعليله تقديم القرآن المكي ذكر إسحاق على إسماعيل، وتقديم الآيات المدنية اسم إسماعيل على إسحاق (ص32) يدل على عمق في الفهم وسعة في الأفق ولماحية نادرة وهو اجتهاد موفق، لأن قريش كان عندها نزعة استعلائية فوقية تجاه باقي القبائل، وحينما هاجر المسلمون إلى المدينة، أدركوا استعلاء عنصريا عند اليهود وشعورا بتضخم الذات وترديد مقولة: أنهم شعب الله المختار، فأراد الله أن يبين أن الجميع عباد الله وكل البشر من آدم، ونحن سواء أمام الله وميزان الاصطفاء هو العمل المنتج وخدمة البشرية وخلوص النية لله.
4 ــ نؤيد المؤلف فيما ذهب إليه من أن مسألة وأد البنات لم تكن متفشية بين القبائل العربية وربما وجدت في قبيلة أو أخرى (ص70 ـ 72)، كما نرى في إيمان بعض القبائل بالبعث، ولذلك كانوا يربطون الناقة بجوار قبر الميت حتى يبعث راكبا وليس مترجلا.
كذلك نعضد وجهة نظره في نفيه وأد عمر إحدى بناته ونثني على قدرته على غربلة الروايات الواهية، وإعمال العقل فيها، وعدم قبول القضايا كأنها مسلمات لا تحتاج إلى دليل أو برهان، فأولا تزوج عمر تسع زوجات أنجب منهن ثمانية ذكور وأربع بنات ولم يشر د. حسين هيكل ولا الشيخ الغزالي، الى مسألة قيامه بوأد أحد من بناته (د.هيكل: الفاروق عمر 34) ثانيا: ربما وضع القصة أعداء العرب من الشعوبيين أو الشيعة الغلاة الذين يكرهونه، أو الذين يحسدون مكانته في الإسلام، وقبلها المؤرخون حتى يظهروا كيف أن مبادئ الإسلام غيرت من كيميائية هذا الرجل، وقلبت نفسيته من الغلظة والشدة التي ورثها عن أبيه الخطاب، إلى الحب والرحمة والعطف والحدب على ضعفاء المسلمين والعناية بهم.
5 ــ ذكر المؤلف الأسباب الحقيقية لحملة ابرهة الأشرم على مكة، وأهمها ضرب مكانة الكعبة الدينية، في نفوس العرب، وما تجلبه على قريش من سيولة مالية ونشاط اقتصادي، علاوة على نيته نشر المسيحية بين العرب، وهذا تحليل مقبول من ناحية الواقع التأريخي وتسلسل الحوادث، وفي الوقت نفسه رفض رواية المؤرخين التي تقول أن سبب غزو إبرهة للكعبة يرجع إلى أن أحد العرب قد دخل الكنيسة التي بناها وأفسد فيها، فهذه حجة واهية وسبب ضعيف، ولا يبرر قيام جيش كبير بغزو دولة مجاورة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وقف موقفا وسطا بين رأي الإمام محمد عبده الذي ذهب إلى أن مرض الجدري أصاب جيش إبرهة وتفشى فيه عن طريق الطير الأبابيل، وقد أيد حسين هيكل وجهة نظر الإمام، ومن أكد أننا أمام معجزة خارقة للعادة، فالطير الأبابيل ألقت عليهم حجارة فتناثرت أشلاؤهم، وذهب إلى ذلك سيد قطب، مع أنه وجد عذرا لمحمد عبده في هذا التعليل العقلي بسبب التخلف الفكري وجمود أحوال العصر.
فجمع المؤلف بين الرأيين فلم يستبعد تفشي مرض الجدري والحصبة في جيش ابرهة لكن هذه الفيروسات كانت عن طريق الحجارة التي ألقتها الطير الأبابيل.
وهذا التوجه يرضي طبيعة الإنسان ونوازعه المختلفة ومشاربه الثقافية المتعددة، من يأخذ بالنزعة العقلية ولا يقبل إلا الدليل والحجة والتحليل والتعليل ويقول في نفسه؛ نتعقل ثم نؤمن، ومن يريد أن يؤمن ويأخذ قضايا الدين مسلمات واضحة، دون تعليل أو تحليل، ويقول في نفسه نؤمن ثم نتعقل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق